سبع سنوات في حيفا... إحسان عبّاس يتذكّر | أرشيف

إحسان عبّاس (1920 - 2003)

 

المصدر: «مجلّة مشارف».

زمن النشر: 1 كانون الثاني (يناير) 1996.

الكاتب: غسّان إسماعيل عبد الخالق.

 


 

حينما كلّفني الزملاء في «مشارف» أن أعود بذاكرة الدكتور إحسان عبّاس (1920-2003) إلى حيفا، حاولت التملّص من هذه الصيغة واقترحت بدلًا من ذلك شكلًا من أشكال الكتابة هو مزيج من الحوار والانطباعات الشخصيّة والتعليق على أحد المؤلّفات. وذلك لأكثر من سبب؛ فقد سبق أن كُلِّفْتُ بمحاورة الدكتور إحساب عبّاس والكتابة عنه غير مرّة، وكان يميل في الحوار إلى الاقتضاب بوجه عامّ. أمّا الطفولة، فقد كان يقفز عنها مكتفيًا بكلمات قليلة. وهكذا، فقد وطّنت النفس على أن أكتب نصًّا يتكوّن من حوار توقّعته قصيرًا وانطباعات شخصيّة جديدة، بالإضافة إلى قراءة في كتابه «فصول حول الحياة الثقافيّة والعمرانيّة في فلسطين» (1993)، لولا أنّ تدفّقًا مفاجئًا لم يكن في الحسبان جعلني أضرب صفحًا عمّا كنت قد عزمت عليه، فاكتفيت بتسجيل سيل الذاكرة الّذي لم أشأ أن أقطعه بسؤال أو تعليق، ثمّ لملمته وعرضته على الدكتور إحسان عبّاس فأقرّه، آملًا أن تُتاح لي الفرصة للإفادة من هذه السيرة في عمل إبداعيّ يستلهمها.

 

الفلّاح والمدينة

يقول إحسان عبّاس:

حينما بلغت التاسعة تقريبًا، أقنع الأستاذ عبد الرحيم الكرمي مدير مدرسة «عين غزال» الابتدائيّة والدي بإرسالي إلى حيفا لمتابعة دراستي. وقد توجّهت بصحبة والدي إلى «المدرسة الإسلاميّة» التابعة لـ «الجمعيّة الإسلاميّة»، حيث تمّ قبولي في الصفّ الثالث الابتدائيّ، ومع أنّني كنت قد اجتزت هذا الصفّ في مدرسة «عين غزال»، إلّا أنّ والدي – ومن ثمّ أنا – تقبّلنا الأمر ببساطة الفلّاح الّذي لا يجرؤ على المناقشة أو الاعتراض.

كان ذلك في عام 1930، قبل أن تشهد حيفا تلك الجموع البشريّة الّتي تدفّقت عليها قادمة من سهول حوران في جنوب سوريا وشمال الأردنّ، بالإضافة إلى أبناء القرى الفلسطينيّة، فور الشروع في بناء الميناء ثمّ مصفاة البترول. لاحقًا، أصبحت المدينة كبيرة جدًّا، والأسعار في غاية الارتفاع، حتّى أنّ إيجار الغرفة الواحدة – ولا أقول الشقّة – بلغ خمسة عشر جنيهًا شهريًّا. وبطبيعة الحال، فأنا لم أكن أملك ملّيمًا واحدًا، ممّا وضعني في مأزق سيظلّ يطاردني طيلة الأعوام السبعة الّتي قضيتها في حيفا، ألا وهو العثور على مكان آوي إليه، خاصّة أنّ المدارس الداخليّة مثل «المطران» و«الساليزيان» لم تكن في متناول أمثالي من الطلّاب الفقراء.

لا أدري كيف أنّ والدي أقدم على إلحاقي بـ «المدرسة الإسلاميّة» في حيفا دون أن يفكّر في هذا الأمر! وعلى أيّة حال، فقد بادر الأستاذ عبد الرحيم الكرمي إلى حلّ هذه المعضلة على نحو سحريّ، إذ أقنع أحد أقاربه الأثرياء – ويُدْعى أبا كمال – بإيوائي، وللحقّ فقد كانت السنة الأولى الّتي قضيتها في كنف هذه العائلة أشبه بحلم ورديّ جميل.

كان أبو كمال تاجرًا كبيرًا من تجّار الأقمشة، وكان وزوجته على مستوى عالٍ من الرقيّ والتمدّن، وعاملاني كما لو كنت ابنًا لهما، ولم تكن عواطف ابنيهما – كمال وحسن – بأقلّ من ذلك. صرت أتناول وجبات شهيّة ومغذّيّة، وأصطحب ’صفرطاسًا‘ خاصًّا بالطعام إلى المدرسة، وأستحمّ مرّتين في الأسبوع، وحيث أنّ جسمي كان من الضآلة والنحافة والاصفرار بمكان، فقد كانت أمّ كمال تشجّعني على تناول شراب زيت السمك، حتّى تتحسّن صحّتي ويزداد وزني قليلًا.

لم تمهلني الأقدار كثيرًا، فقد فُجِعَتْ عائلة أبي كمال بموت الابن الأصغر (حسين) قبل نهاية العام الدراسيّ الأوّل، وثمّ لم تكن فجيعتي بأقلّ من هذه العائلة النبيلة. وعلى الرغم من أنّ أمّ كمال قد استمرّت في الحنوّ عليّ، إلّا أنّني لم أحتمل فكرة حلولي مكان ابنها، وكونها ترى فيّ ابنها الصغير الراحل، فقرّرت الابتعاد وليتني لم أقرّر ذلك.

لقد عُدْت بمحض إرادتي إلى الشارع، وأصبحت طفلًا قرويًّا هائمًا على وجهه، لا مال ولا أهل. ولشدّ ما كنت أخاف من أن أمرض وأنا على تلك الحال. لم أعد أذكر عدد العائلات الّتي تقاذفتني شهورًا أو أسابيع، وأحيانًا بضعة أيّام. لقد صار تأمين المأوى شغلي الشاغل، فما أن أظفر بعائلة تؤويني حتّى أفاجأ بتراجعها لأسباب معيشيّة أو تنصّلًا من المسؤوليّة. كما صار «جامع الاستقلال» كعبتي الّتي أطوف حولها كلّ يوم، مفكّرًا بحالي ومتطلّعًا في وجوه الناس.

ظللت على هذه الحال إلى أن شلمني الشيخ أحمد السعدي برعايته الّتي امتدّت أربعة أعوام (1934-1937). كان الشيخ أحمد السعدي يقطن حيًّا فقيرًا (وادي الصليب)، ويمتلك شخصيّة عجيبة وطريفة ما زالت محفورة في ذهني حتّى الآن. ضعيف النظر، أمّيًّا ساذجًا. ومع ذلك، فقد كان الناس يقصدونه لكي يكتب لهم الحُجُب، ويصنع لهم الأدوية. وصار يكلّفني في ما بعد بكتابة السور القرآنيّة القصيرة بأحرف متقطّعة، حتّى لا يتمكّن مريدوه من قراءتها، فصرت أربأ بسور القرآن الكريم عن هذا الامتهان، وأكتب بدلًا منها أغاني ’الدلعونا والعتابا‘، إضافة إلى الحروف الإنجليزيّة.

لقد فنّدت هذه الشخصيّة في سنّ مبكّرة سلطة الخرافة والشعوذة من عقلي، وجعلتني كثير الشكّ، ممّا أفادني على صعيد البحث العلميّ في مراحل تالية من حياتي.

 

العام الأوّل

ويضيف إحسان عبّاس:

كانت غالبيّة معلّمي المدرسة الإسلاميّة من الشام، أذكر منهم الشيخ كامل القصّاب، الّذي قَدِمَ من سوريا هربًا من الفرنسيّين، كما أذكر ابنه الشيخ أبا الحسن، الّذي كان يدرّس القرآن الكريم. والشيخ رضا، المسؤول عن ’الفلقة‘، والشيخ منذر الّذي كان يدرّس الجبر للصفّ الثالث ابتدائيّ على أنّه حساب، والأستاذ حسين حمّاد الّذي كان يدرّس العربيّة والجغرافيا.

وإن كنت أنسى، فلن أنسى الأستاذ جميل عبد النور الّذي لم يكن يدرّسني، فقد ابتاع هذا المعلّم كتاب «أساس الاقتباس» على نفقته الخاصّة ليقدّمه جائزة إلى الطالب الّذي يقع عليه اختيار المدرسة، فقُدِّمَ لي كأوّل جائزة أنالها في حياتي، وقد هالني أن ألتقيه بعد سنوات هائمًا على وجهه في طرقات حيفا، يحمل حجرين ويطرق كلّ منهما بالآخر والأطفال يطاردونه. وما زلت أذكر احمرار بشرته ونحوله، وأذكر أيضًا ذلك الخوف والقلق الّذي لفّني وأنا أرى بأمّ عينيّ المصير الفاجع الّذي آل إليه شخص أحلم بأن أكون مثله في يوم من الأيّام.

وربّما توجّب عليّ القول – إنصافًا لمدارس الزمن الماضي – إنّني طيلة الأعوام السبعة الّتي قضيتها في حيفا لم أشهد في المدارس الثلاث الإسلاميّة وحيفا وعكّا، لم أشهد إلّا عقوبتين، كنت ضحيّة إحداهما.

فقد صفعني أحد الأساتذة في أثناء الطابور المدرسيّ في الصفّ السابع، ظنًّا منه بأنّني كنت أثرثر، ولم أبادر للدفاع عن نفسي لأنّني كنت متيقّنًا من أنّ السكوت في مثل هذه المواقف هو من ذهب. وقد صفع الأستاذ إميل الخوري، معلّم الجغرافيا العتيد، زميلًا لي، صفعة دحرجته من أقصى الحجرة إلى أقصاها، بناءً على شكوى منّي مفادها أنّ هذا الزميل حمّلني رسالة إلى الشيخ السعدي – ولم يكن يعلم أنّه أمّيّ – فدفعت بها إلى الشيخ السعدي الّذي كلّفني بقراءتها، فلمّا أخذت بقراءتها فوجئت بأنّ الزميل كتبها كي يحرّض الشيخ السعدي عليّ، وقد كاد الشيخ السعدي يصدّق ما جاء في الرسالة، لولا أنّني طلبت منه أن يستفسر عن أوضاعي في المدرسة بنفسه كي يتأكّد. ثمّ إنّني رددت على الزميل برسالة شحنتها بكلّ ما أحفظ من شعر في الهجاء والتعريض، وأعطيت الرسالة للأستاذ إميل الخوري الّذي اكتفى بنهري، ولكنّه أصرّ على معاقبة الزميل بشدّة. الطريف في الأمر أنّ هذا الزميل فعل ما فعل لأنّني لم أحسن الاستماع لقصصه واختلاقاته العجيبة، فقد حدّثنا يومًا بأنّه وضع صبيًّا في كيس وحمله على ظهره وقصد السوق، فراح يشاغل البائعين بالكلام بينما كان الصبيّ يختطف الحلوى ويضعها في الكيس حتّى امتلأ.

 

صورة لحيفا

كانت حيفا – كما سبق أن قلت – مدينة كبيرة مترامية حيّة، كلّها أدراج تبدأ بـ ’الهدار‘ ثمّ تأخذ في الانحدار مرورًا بوادي النسناس حيث كان يسكن العرب. فحيفا الشرقيّة الّتي كانت تشمل وادي الصليب وأحياءً أخرى يقطنها مزيج من القرويّين. ورغم هذا الترامي بين أطرافها، فقد كنت أقطع المدينة من أقصاها إلى أقصاها سيرًا على الأقدام، صعودًا أو نزولًا، ولا أذكر أنّني ركبت حافلة أو سيّارة.

ولطالما استهوتني منطقة «جامع الاستقلال»، المَعْلَم الأكبر في مدينة حيفا الشرقيّة، حيث مقابر المسلمين وبسطات الكتب المعروفة للبيع. كنت أتصفّح بعينيّ أغلفة هذه الكتب الّتي لم أكن أملك ثمن أيّ منها، وأذكر أنّني دفعت لاحقًا مبلغ قرشين ثمنًا لطبعة بيروتيّة لديوان ذي الرمّة الّذي ظللت أقرأ فيه مدّة ولا أفهم ما أقرأ.

أمر آخر جعلني أحبّ هذه المنطقة أكثر من غيرها، إنّه الاحتفال بذكرى المولد النبويّ، حيث كانت كلّ قرية تمثّل بحلقة دبكة، وقعد سعدت في سنتي المدرسيّة الأولى لأنّ قريتي (عين غزال) كانت ممثّلة بحلقة دبكة، فوقفت طويلًا أتفرّج.

لم يمكن ثمّة زيّ مميّز لسكّان حيفا في الفترة الّتي قضيتها فيها (1930-1937)، بل كان كلّ يلبس على هواه. وأذكر أنّني ارتديت مرّة القمباز وتوجّهت إلى المدرسة، فصادفني في المدرسة الشيخ تقيّ الدين النبهاني مؤسّس «حزب التحرير» في ما بعد، فلم يحبّذ ذلك، لأنّه يجعلني مختلفًا بين جموع الطلّاب الّذين كانوا يرتدون البنطال القصير، أمّا المرأة فقد كانت منقّبة على العموم.

وربّما لأنّني كنت صغير السنّ وقرويًا خجولًا، فإنّني لم أُعِرْ اهتمامًا للفتيات، ولم أخض تجربة عاطفيّة تُذْكَر، على الرغم من أنّ مدرسة البنات الإنجليزيّة كانت قريبة من مدرسة حيفا الحكوميّة.

لم يكن ثمّة مسارح في حيفا أو دور سينما (كان ثمّة سينما تُدْعى «عين دور» لليهود)، ولم يكن ثمّة قاعات للمحاضرات أيضًا. المكان الوحيد الّذي كان يصلح للتنزّه هو ضريح ’عبّاس أفندي‘، أحد أقطاب البهائيّين. فقد كانت أزهاره مشذّبة بطريقة هندسيّة صارمة، وكنت أقضي الكثير من الوقت في هذا المكان وأنا أدرس. ومن آن لآخر، كان ثمّة بعض المباريات الّتي تُقام بين فريقين عربيّين أو بين فريق عربيّ وآخر يهوديّ، حيث كان بوسعك أن تسمع هتافات مثل "كاديما هبوعيل"، أي تقدّموا!

وعلى ذكر المسرح، فقد قمت بإعادة تمثيل المسرحيّة الّتي عُرِضَتْ في «المدرسة الإسلاميّة» خلال العام الأوّل، في قريتي. حيث وزّعت الأدوار على شباب القرية بدقّة. ومن الطريف أنّ المسرحيّة كانت تتناول على نحو ساخر حياة الطلّاب في ظلّ الطريقة التقليديّة في التعليم – الكتاتيب.

وربّما كان من المفيد الإشارة إلى أنّ والدي غامر بافتتاح دكّان في حيفا لمدّة ستّة أشهر فقط، وفّرت لي فرصة ذهبيّة للجلوس في الدكّان وتأمّل الأمواج البشريّة الّتي كانت تكتظّ بها حيفا، ولطالما شدّتي رؤية بعض النماذج مثل الصوفيّ الأنيق أو العجوز الّتي لم تكن تتوقّف عن ترداد استقلّت القدس، ثمّ تروح تردّد أغاني نوح إبراهيم مثل:

"دبّرها يا مستر دِلْ

يمكن على يدّك بتحلّ".

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.